الغيبة الصغرى والنيابة الخاصة
لقد هيّأ الباري عزَّ اسمه المؤمنين لغيبة وليّه عليه السلام الطويلة
المتمادية قروناً بغيبة صغرى قد نصب فيها نوّاباً وسفراء له أربعة، أوّلهم: عثمان
بن سعيد العمري، والثاني: ابنه محمّد بن عثمان العمري، والثالث: الحسين بن روح
النوبختي، والرابع: علي بن محمّد السمري، ابتدأت من عام وفاة الإمام أبي محمّد
الحسن بن علي العسكري (8/ ربيع الأوّل 260هــ) إلى (15/ شعبان/ 329هــ) تاريخ وفاة
السمري، فطاولت ما يزيد على 69 عاماً، وكانت لهؤلاء الأربعة مكانة خاصّة، ونيابة
خاصّة يلتقون من خلالها مع الإمام عليه السلام، ويوصلون أوامره وتوجيهاته إلى
الطائفة الناجية وعلمائها.
وهذه النيابة الخاصة لم تعهدها _ على الصعيد الرسمي والعلني _ الطائفة
قبل ذلك مع الأئمّة السابقين عليهم السلام، وإن كان لديهم وكلاء ونوّاب خاصون، إلاّ
أنّ هذه النيابة الخاصة للأربعة كانت تمتاز بصلاحيّات خاصّة للنائب تتّصل بشؤون
غيبيّة نظير ما لأصحاب القائم عليه السلام الـ (313) في عصر الظهور من صلاحيات
غيبيّة، ومقامات معنوية فائقة، ويكفي في الإشارة إلى ذلك تسميتها
بالسفارة.
وبالنظر لخطورة هذا الموقع السامي فقد
كانت الطائفة وعلماؤها يقومون بامتحان هؤلاء الأربعة بنحو مستمرّ، مع أنّ الإمام
العسكري عليه السلام قد نصَّ لدى وجهاء الطائفة وعلمائها على نيابة العمري وابنه عن
الناحية المقدّسة عليه السلام، كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي في كتابه
الغيبة(1)، وهذا المنطق ليس غريباً عند أتباع أئمّة أهل البيت
عليهم السلام، حيث إن المسار الديني لديهم قائم على الدليل والبرهان والبيّنات،
بدءً من ضرورة المعجزة على نبوّة الأنبياء، وعلى إمامة الأئمّة، مضافاً إلى النصوص
الإلهية الواردة من كلّ نبيّ سابق على النبي اللاّحق، ومن سيد الأنبياء على سيد
الأوصياء وولده، ومن الإمام السابق على الإمام اللاحق، ويتصل بخطورة مقام النيابة
الخاصة ملاحظة ظاهرة فقهية لدى علمائنا المعاصرين للغيبة الصغرى، ولأوائل الغيبة
الكبرى، وهو اللعن والبراءة من المدّعين الكاذبين، والطرد لهم عن الطائفة، وهذا
الموقف تبعاً لما صدر من التوقيعات من الناحية المقدّسة حول
بعضهم.
وفي هذا السياق أيضاً ما يلاحظ في
زيارة قبورهم التي رواها الشيخ في التهذيب: (جئتك مخلصاً بتوحيد الله وموالاة
أوليائه، والبراءة من أعدائهم ومن الذين خالفوك يا حجة المولى، وبك إليهم توجهي،
وبهم إلى الله توسلي)(2).
ونظير هذا المفاد ما ذكره الشيخ في
الغيبة في باب ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية والسفارة كذباً وافتراءً.. قال:
(ومنهم أحمد بن هلال الكرخي، قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي
محمّد، فاجتمعت الشيعة على وكالة أبي جعفر محمّد بن عثمان رحمه الله بنصّ الحسن
عليه السلام في حياته، ولمّا مضى الحسن عليه السلام قالت الشيعة الجماعة له: ألا
تقبل أمر أبي جعفر محمّد بن عثمان وترجع إليه، وقد نصَّ عليه الإمام المفترض
الطاعة؟ فقال لهم: لم أسمعه ينصُّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه يعني عثمان بن
سعيد، فأما أن أقطع أن أبا جعفر وكيل صاحب الزمان، فلا أجسُر عليه، فقالوا: قد سمعه
غيرك، فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرّأوا منه. ثمّ ظهر
التوقيع على يد أبي القاسم بن روح رحمه الله بلعنه والبراءة منه في جملة من
لعن)(3).
فإن لعن وبراءة الطائفة من ابن هلال
بمجرّد إنكاره لسفارة النائب الثاني يدلُّ على خطورة مقام النيابة الخاصّة المسمّاة
بالسفارة في مذهب أهل البيت عليهم السلام، ومما يعزز كونه مقاماً معنوياً خاصاً ما
ورد في زيارتهم التي تقدمت: (أشهد أن الله اختصك بنوره حتّى عاينت الشخص فأدّيت عنه
وأدّيت إليه)(4).
ولذلك يشاهد من المدّعين الكذّابين
لهذا المقام في الغيبة الصغرى أنهم تمخرقوا وتبهرجوا بادّعاء مقامات غيبيّة باطلة،
وشؤون ملكوتية زائفة، والملفت لنظر الباحث المتتبّع أن مقالات هؤلاء المدعين
للنيابة كذباً في القرن الثالث وبداية الرابع، تبنّاها في القرون اللاحقة كثير من
فِرَق الصوفية وروّاد التصوّف، سواء على صعيد نظريات التصوّف النظري والتصوّف
العملي، أو على صعيد التأويلات الخيالية الوهمية البعيدة عن الحقائق الغيبية، في
مجال المعارف والآداب والسنن(5).
ويشاهد أيضاً أنّ هؤلاء المدعين للسفارة لم يقتصروا على ادّعائها مع
الحجة المهدي عليه السلام، بل ادعوها أيضاً مع أرواح الأئمّة السابقين عليهم
السلام، وبعبارة أخرى: أن مقام ومنصب السفارة _ حيث كان معناه _ وساطة معنوية بين
الناحية المقدسة عليه السلام وبين الناس، تمادوا في ادعائها معنوياً مع بقيّة
الأئمّة الماضين عليهم السلام، وهذا يقرَّر أن تحديد إطار معنى النيابة الخاصة
والسفارة أنها وساطة معنوية، وتمثيل رسمي بين أيّ معصوم عليه السلام وبين
الناس.
وقد قامت الضرورة لدى الطائفة الإمامية
على انقطاعها بعد الغيبة الصغرى بعد النائب الرابع علي بن محمّد السمري، حيث ورد
التوقيع من الناحية المقدسة على يده: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد
السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك،
ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية (التامة)، فلا ظهور
إلاّ بعد إذن الله عز وجل، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً،
وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة
فهو كاذب مفترٍ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم)(6).
إذ المراد بالمشاهدة هي الوساطة والتمثيل والاتصال الرسمي بالناحية
المقدسة؛ لأنها ذُكرت في سياق قوله عليه السلام: (لا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد
وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية).
المصدر:
دعوى السفارة في الغيبة الكبرى , للشيخ محمد سند حفظه الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق