يقول الشيخ السند حفظه الله :
وبعد هذا كلّه لعلَّ قائلاً يقول: أليس
قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (من رآني في منامه فقد رآني لأن
الشيطان لا يتمثّل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من
شيعتهم)(1) وحينئذٍ كانت رؤيا الرسول صلى الله عليه وآله أو أحد
أوصيائه صادقة لا محالة، وهي لا يفرق فيها بين أن تكون من القسم الأوّل وهي ما كان
فيها أمر ونهي، أو من القسم الثاني وهي الأخبار عن ما يستقبل من
الأمور.
وهذه المقالة وَهْمٌ فاسد لجهات عدّة:
الأولى: أن أكثر ما روي عن الرسول صلى
الله عليه وآله: (من رآني في منامه فقد رآني) فهو بطرق العامة لا بطرق الخاصة
الإمامية، وأما ما روي بطريق الخاصة فالمرحوم العلاّمة المجلسي على سعة باعه وتوغله
في الرواية لم يذكر في كتاب البحار، في باب رؤية النبي صلى الله عليه وآله
والأوصياء عليهم السلام إلاّ رواية واحدة بهذا المضمون، ثمّ ذكر أنه روى المخالفون
(أهل السنّة) ذلك بأسانيد عندهم، ولذا قال السيد المرتضى رحمه الله عندما سئل عن
هذا الخبر: (هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد، ولا معوَّل على مثل
ذلك)(2).
وهي ليست على درجة من الاعتبار،
وبعبارة أخرى أن حجية الرواية يشترط فيها أمور منها ما يتعلق بالسند والطريق وهو
الأشخاص الذين ينقل كل منهم عن الآخر حتّى يصل إلى المعصوم عليه السلام، فإنهم لا
بدَّ أن يكونوا عدولاً أو ثقاتاً قد اطمئن إلى صدق لهجتهم، فلا يقبل من غير العادل
والثقة، قال تعالى: ((إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ
نادِمِينَ))(3)، وكذلك مجهول الحال فإنه لا يمكن الاعتماد عليه في
النقل والحديث.
الثانية: أن هذه المسألة وهي كون
الرؤيا مصدراً لاستقاء أحكام الشريعة من سلك مسائل الأصول الاعتقادية فكيف يعوّل
فيها على خبر واحد ظنّي، إذ لا بدَّ فيها من اليقين والقطع، ولذلك قال العلامة
المجلسي تغمّده الله برحمته: (أن الظاهر إن هذا من مسائل الأصول، ولا بدَّ فيه من
العلم، ولا يثبت بأخبار الآحاد المفيدة للظن)(4).
الثالثة: لو فرضنا اعتبار طريق الرواية وفرضنا إمكان إثبات مثل هذه
المسألة بخبر واحد ظنّي فإن ذلك يتم لو كنّا نحن والرواية على تقدير صحة هذه
الاستفادة من معنى الرواية، وأما مع ما تقدّم من الآيات القرآنية والسُنّة
المستفيضة المتواترة معنى في أن الرؤيا المتضمنة للأمر والنهي من خصائص الأنبياء
والمرسلين فلا يمكن الاعتماد على هذه الاستفادة من الرواية ولا برفع اليد عن الدليل
القطعي بخبر واحد، ولا يوسوس في ذلك إلاّ من ليس يتحرّج في دينه ومن لا يركن إلى
أوّليات عقله وفطرته.
الرابعة: توجد روايتان معتبرتان بل
أكثر تدلُّ بالخصوص على عدم صحة أن من رآهم في المنام مطلقاً ودوماً فقد رآهم عليهم
السلام، فقد روى الشيخ الجليل الكشّي رحمه الله في كتابه (معرفة
الرجال)(5) عن جبريل بن أحمد أنه حدّثه محمّد بن عيسى (العبيدي اليقطيني)، عن علي
بن الحكم، عن حمّاد بن عثمان، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه
السلام: (أخبرني عن حمزة(6) أيزعم أن أبي آتيه؟)، قلت: نعم. قال: (كذب والله ما
يأتيه إلاّ المتكوّن، إن إبليس سلّط شيطاناً يقال له: المتكوّن يأتي الناس في أيّ
صورة شاء، إن شاء في صورة صغيرة وإن شاء في صورة كبيرة، ولا والله ما يستطيع أن
يجيء في صورة أبي عليه السلام).
وروي عن سعد بن عبد الله الأشعري قال:
حدّثني أحمد (بن عيسى الأشعري)، عن أبيه، والحسين بن سعيد (الأهوازي)، عن ابن أبي
عمير، عن محمّد بن عمر بن أذينة، عن بُريد بن معاوية العجلي، وبطريق آخر عن سعد بن
عبد الله، قال: حدّثني محمّد بن عيسى (العبيدي)، عن يونس بن عبد الرحمن، ومحمّد بن
أبي عمير، عن محمّد بن عمر بن أذينة، عن بُريد بن معاوية العجلي، قال: كان حمزة بن
عمارة الزبيدي (البربري) لعنه الله يقول لأصحابه أن أبا جعفر (الباقر) عليه السلام
يأتيني في كل ليلة ولا يزال إنسان يزعم أنه قد رآه فقدّر لي أني لقيت أبا جعفر عليه
السلام فحدّثته بما يقول حمزة، فقال: (كذب، عليه لعنة الله ما يقدر الشيطان أن
يتمثل في صورة نبي ولا وصي نبي)(7).
وهاتان الروايتان وإن كان يحتمل منهما الرؤية في اليقظة، ولكن ذلك لا
يخدش في المطلوب وهو عدم دوام المطابقة بين ما يعتقده الرائي سواء في المنام أو
اليقظة أنه قد رأى الأئمّة مع الواقع والحقيقة، وذلك لتلبيس وخداع الشيطان للرائي
وتشكّل الشيطان (الذي يسمى المتكوّن) بصور مختلفة يغري الرائي أن تلك الصور هم
الأئمّة عليهم السلام، مع أن تلك الصور ليست بصورهم عليهم السلام، لأنه لا يستطيع
التمثّل والتشكّل بصورهم عليهم السلام، وستأتي في الفصل اللاحق نقل عدّة روايات
بهذا المضمون.
الخامسة: لو رفعنا اليد فرضاً عن ما سبق فإنما يتبع ما يرى في الشيء
الذي علم من الشريعة المقدسة صحته، أي كان المرئي موافقاً لظاهر الشريعة لا ما كان
مخالفاً لها، وذلك لكون منشأ ودليل حجيّة الرؤية هي هذه الرواية التي هي واصل لنا
من الشريعة، فكيف تعارض الشريعة، وهل يمكن للفرع أن يستأصل ويبيد الأصل.
قال الكراجكي رحمه الله في كتابه (كنز
الفوائد)(8): (وجدت لشيخنا المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه: أن
الكلام في باب رؤيا المنامات عزيز، وتهاون أهل النظر به شديد، والبلية بذلك عظيمة،
وصدق القول فيه أصل جليل... إلى أن قال:
وأما رؤية الإنسان للنبي صلى الله عليه وآله أو لأحد الأئمّة عليهم
السلام في المنام فإن ذلك عندي على ثلاثة أقسام:
قسم أقطع على صحته، وقسم أقطع على بطلانه، وقسم أجوّز فيه الصحة
والبطلان فلا أقطع فيه على حال.
فأما الذي أقطع على صحته فهو كل منام رأى فيه النبي صلى الله عليه وآله
أو أحد الأئمّة عليهم السلام وهو الفاعل لطاعة أو آمر بها، وناهٍ عن معصية أو مبيّن
لقبحها، وقائل لحق أو داع إليه، وزاجر عن باطل أو ذام لمن هو عليه.
وأما الذي أقطع على بطلانه فهو كل ما كان ضد ذلك، لعلمنا أن النبي صلى
الله عليه وآله والإمام عليه السلام صاحبا حق، وصاحب الحق بعيد عن
الباطل.
وأما الذي أجوّز فيه الصحة والبطلان
فهو المنام الذي يرى فيه النبي والإمام عليهما السلام وليس هو آمراً ولا ناهياً ولا
على حال يختص بالديانات(9) مثل أن يراه راكباً أو ماشياً أو جالساً ونحو
ذلك.
وأما الخبر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (من رآني
فقد رآني، فإن الشيطان لا يتشبّه بي) فإنه إذا كان المراد به المنام يحمل على
التخصيص دون أن يكون في كل حال، ويكون المراد به القسم الأوّل من الثلاثة الأقسام،
لأن الشيطان لا يتشبّه بالنبي صلى الله عليه وآله في شيء من الحق والطاعات... إلى
أن قال:
وجميع هذه الروايات أخبار آحاد، فإن سلمت فعلى هذا المنهاج، وقد كان
شيخي رحمه الله يقول:
إذا جاز من بشر أن يدّعي في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع
قلّة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة فما المانع من أن يدّعي إبليس عند النائم
بوسوسة له أنه نبي؟ مع تمكّن إبليس مما لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في
المنام.
ومما يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول
الله والأئمّة منها ما هو حق ومنها ما هو باطل إنك ترى الشيعي يقول: رأيت في المنام
رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو
يأمرني بالاقتداء به دون غيره، ويعلمني أنه خليفته من بعده وأن أبا بكر وعمر وعثمان
ظالموه وأعداؤه وينهاني عن موالاتهم ويأمرني بالبراءة منهم ونحو ذلك مما يختص بمذهب
الشيعة، ثمّ يرى الناصبي يقول: رأيت رسول الله في النوم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان
وهو يأمرني بمحبتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة، وأنهم
معه في الجنّة ونحو ذلك مما يختصُّ بمذهب الناصبية، فنعلم لا محالة أن أحد المنامين
حق والآخر باطل فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت الدليل في اليقظة على صحة
ما تضمنه، والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه، وليس يمكن الشيعي أن يقول
للناصبي: إنك كذبت في قولك إنك رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنه يقدر أن
يقول له مثل هذا بعينه.
وقد شاهدنا ناصبياً يتشيّع وأخبرنا في حال تشيّعه بأنه يرى منامات بالضد
مما كان يراه حال نصبه، فبان بذلك أن أحد المنامين باطل، وأنه من نتيجة حديث النفس
أو من وسوسة إبليس ونحو ذلك، وأن المنام الصحيح هو لطف من الله تعالى بعبده على
المعنى المتقدم وصفه.
وقولنا في المنام الصحيح: إن الإنسان رأى في نومه النبي صلى الله عليه
وآله إنما معناه أنه كأن قد رآه، وليس المراد به التحقق في اتصال شعاع بصره بجسد
النبي صلى الله عليه وآله، وأيّ بصر يدرك به في حال نومه؟ وإنما هي معاني تصورت،
وفي نفسه تخيّل له فيها أمر لطف الله تعالى له به قام مقام العلم، وليس هذا بمناف
للخبر الذي روي من قوله: (من رآني فقد رآني)، لأن معناه: فكأنما رآني، وليس يغلط في
هذا المكان إلاّ من ليس له من عقله اعتبار).
ولهذا بحث الكثير في علم ما اصطلح عليه بـ (العرفان) عن الفارق بين
الإلهام الرحماني والإلهام الشيطاني، وبين الكشف الحقيقي والكشف الكاذب غير
الحقيقي، وبين الواردات الرحمانية والملكية والواردات القلبية الشيطانية
والجنية.
فقد ذكر الشارح القيصري في شرحه على (فصوص الحكم) لابن العربي في الفصل
السادس والسابع من الفصول التي ذكرها في المقدمة، قال: (وكما أن النوم ينقسم بأضغاث
أحلام وغيرها كذلك ما يرى في اليقظة ينقسم إلى أمور حقيقية محضة واقعة في نفس الأمر
وإلى أمور خيالية صرفة لا حقيقة لها شيطانية، وقد يخلطها الشيطان بيسير من الأمور
الحقيقية ليضلّ الرائي، لذلك يحتاج السالك إلى مرشد يرشده وينجّيه من المهالك
والأوّل إما أن يتعلّق بالحوادث أو لا.
فإن كان متعلقاً بها فعند وقوعها كما شاهدها أو على سبيل التعبير وعدم
وقوعها حصل التمييز بينهما وبين الخيالية الصرفة وعبور الحقيقة عن صورتها الأصلية
إنما هو للمناسبات التي بين الصور الظاهرة هي فيها وبين الحقيقة، ولظهورها فيها
أسباب كلّها راجعة إلى أحوال الرائي وتفصيله يؤدّي إلى التطويل.
وأما إذا لم يكن كذلك (أي الرؤيا غير الأخبارية بالمستقبليات) فللفرق
بينها وبين الخيالية الصرفة موازين يعرفها أرباب الذوق والشهود بحسب مكاشفاتهم، كما
أن للحكماء ميزاناً يفرّق بين الصواب والخطأ وهو المنطق.
منها: ما هو ميزان عام، وهو القرآن والحديث المنبئ كل منهما على الكشف
التام المحمّدي صلى الله عليه وآله.
ومنها: ما هو خاص، وهو ما يتعلق بحال
كل منهم القابض عليه من الاسم الحاكم والصفة العالية عليه، وسنومي في الفصل التالي
(أي السابع) بعض ما يعرف به إجمالاً)(10).
أقول: فترى أن الميزان عندهم لكون ما يرد على القلب وما ينكشف له _ سواء
بالرؤية في المنام أو في اليقظة أو بغير الرؤية من الإلهام القلبي وغيره _ الميزان
بين الحق والحقيقي منه وبين الباطل والشيطاني والخيالي الذي لا واقعية له هو القرآن
الكريم والسُنّة المطهرة.
وقد برهن الشارح القيصري على ذلك بحسب مصطلح علم العرفان بقوله في الفصل
السابع:
(ولمّا كان من الكشف الصوري والمعنوي
على حسب استعداد السالك ومناسبات روحه وتوجّه سرّه إلى كل من أنواع الكشف، وكانت
الاستعدادات متفاوتة والمناسبات متكثرة صارت مقامات الكشف متفاوتة بحيث لا يكاد
ينضبط، وأصحُّ المكاشفات وأتمّها إنما يحصل لمن يكون مزاجه الروحاني أقرب إلى
الاعتدال التام كأرواح الأنبياء والكمل من الأولياء صلوات الله
عليهم)(11).
ولذا تقرر عندهم أن كل كشف فهو يعرض على كشف الأنبياء والرسل عليهم
السلام، فإن وافقه فيعلم صحته وإلاّ فيعلم فساده، وأن الكشف المعصوم من الباطل هو
كشف الأنبياء المتجلّي في الكتب السماوية التي يبعثون بها، وكذلك أقوالهم
وأفعالهم.
وذكر أيضاً السيد حيدر بن علي الحسيني
الأملي _ والذي وصفه القاضي التستري (في مجالس المؤمنين) بالعارف المحقق الأوحد من
أصحابنا الإمامية المتألهين _(12) (في كتابه جامع الأسرار ومنبع الأنوار)(13):
(وأما الإلهام العام فيكون بسبب وغير
سبب، ويكون حقيقياً وغير حقيقي، فالذي يكون بالسبب ويكون حقيقياً فهو بتسوية النفس
وتحليتها وتهذيبها بالأخلاق المرضية والأوصاف الحميدة موافقاً للشرع ومطابقاً
للإسلام لقوله تعالى: ((وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها))(14) والذي يكون بغير السبب ويكون غير حقيقي فهو يكون لخواص
النفوس واقتضاء الولادة والبلدان كما يحصل للبراهمة والكشايش (القساوسة)
والرهبان.
والتمييز بين هذين الإلهامين محتاج إلى
ميزان إلهي ومحك ربّاني، وهو نظر الكامل المحقق والإمام المعصوم والنبي المرسل
المطلع على بواطن الأشياء على ما هي عليه واستعدادات الموجودات وحقائقها، ولهذا
احتجنا بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام إلى الإمام والمرشد لقوله تعالى: ((فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ))(15)، لأن كل واحد ليس له قوة التمييز بين الإلهامين الحقيقي وغير الحقيقي،
وبين الخاطر الإلهي والخاطر الشيطاني، وغير ذلك. والذكر هو القرآن أو النبي، وأهله
هم أهل بيته من الأئمّة المعصومين المطّلعين على أسرار القرآن وحقائقه ودقائقه،
ولقوله تعالى أيضاً تأكيداً لهذا المعنى: ((فَإِنْ
تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ))(16)، أي إلى أهل الله تعالى وأهل رسوله، والآيات الدالة على
متابعة الكامل والمرشد الذي هو الإمام المعصوم أو العلماء الورثة من خلفائهم كثيرة
فارجع إليها لأن هذا ليس موضعها.
فنرجع ونقول: وإن تحققت عرفت أيضاً أن الخواطر التي قسّموها إلى أربعة
أقسام: إلهي، وملكي، وشيطاني، ونفساني كان سببه ذلك، أي عدم العلم بالإلهامين
المذكورين، أعني الحقيقي وغير الحقيقي، لأنها كلّها من أقسام الإلهام
وتوابعه).
ونقل المتقي الهندي صاحب كنز العمال في
كتابه (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان)(17) عن الشيخ الحسن الشاذلي المالكي رئيس الطريقة الشاذلية
(الصوفية) أنه قال: (إن الله تعالى ضمن العصمة في جانب الكتاب والسُنّة، ولم يضمنها
في جانب الكشف والإلهام).
ونقل عن أبي القاسم القشيري النيشابوري الأشعري الشافعي (الصوفي المفسر
المحدّث الفقيه العارف) أنه قال: (لا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة من
الخطأ والزلل).
هذا وقد عقد الشيخ الكليني في أصوله تحت عنوان: أن للقلب أذنين ينفث
فيهما الملك والشيطان، وروى عن الصادق عليه السلام:
(ما من قلب إلاّ وله أذنان على إحداهما
ملك مرشد وعلى الأخرى شيطان مفتن هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي
والملك يزجره عنها وهو قول الله عز وجل: ((عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ * ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ))(18))(19).
وقال عليه السلام: (ما من مؤمن إلاّ
ولقلبه أذنان في جوفه أذن ينفث فيهما الوسواس الخنّاس وأذن ينفث فيهما الملك فيؤيّد
الله المؤمن بالملك فذلك قوله: ((وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ
مِنْهُ))(20))(21).
و(سأل) السيد مهنا بن سنان العلاّمة الحلّي قدس سره عن مفاد هذه الرواية
وأنه لو فرض أن الرؤية متضمنة للأمر بالشيء أو النهي عن شيء، فهل يتمثل ذلك الأمر
ويجتنب المنهي أم لا، سيّما إذا كان خلاف ظاهر الشريعة؟
(فأجابه) نوّر الله ضريحه: (أما ما
يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه، وأما ما يوافق الظاهر فالأولى المتابعة من غير
وجوب، ورؤيته صلى الله عليه وآله لا يعطي وجوب الاتّباع في
المنام)(22).
الخامسة: ما هو مفاد الرواية ودلالتها؟ فقد تعدّدت الآراء في
ذلك:
أ _ ما حكي عن الفيض الكاشاني أن معنى الرواية هو من رآني أي تحقق
وتيقّن من رؤية صورتي، لأنه قد رآه في اليقظة. فقد رآه تحقيقاً وحقيقة لأن الشيطان
لا يتمثل بصورته صلى الله عليه وآله.
وحينئذٍ يكون مفاد الحديث مخصوص بمن شهد زمانه صلى الله عليه وآله أو
أحد الأئمّة في ظهورهم عليهم السلام أو من عرف أوصافهم عليهم السلام وشمائلهم
المنقولة في الكتب بدقّة.
وهذا الإلحاق والتتمة من بعض المتأخّرين، ويشهد له التعليل في الرواية،
لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي، فإن ذلك يعني حصر
الرؤية بصورهم المختصة بهم عليهم السلام، وهي التي كانوا عليها في حياتهم من
شمائلهم الخاصة بهم.
ب _ ما أفاده السيد المرتضى رحمه الله
في كتاب (الغرر والدرر)(23) وهو: (من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة، لأن
الشيطان لا يتمثل بي لليقظان)، فقد قيل: إن الشياطين ربما تمثّلت بصورة البشر، وهذا
التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ الخبر، لأنه قال: (من رآني فقد رآني)، فأثبت غيره رائياً
له ونفسه مرئية، وفي النوم لا رائي له في الحقيقة ولا مرئي وإنما ذلك في اليقظة،
ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام من اعتقد أنه يراني في منامه، وإن كان غير
راءٍ له على الحقيقة فهو في الحكم كأنه قد رآني، وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر
وتبديل لصيغته) انتهى.
أقول: ما أفاده السيد يفهم من الكلام المتقدم للشيخ المفيد، ولكن هذا
المفاد ينسجم مع بعض الروايات المنقولة بطرق العامة، حيث لم يقيّد فيها الرؤية
بكونها في المنام.
ج _ أن المراد هو الزيارة بالزاي
المنقوطة المعجمة، إذ في كتاب عيون الشيخ الصدوق(24) وهي الرواية التي نقلها العلامة المجلسي في كتاب
البحار(25) ونقلها أيضاً عن مجالس (أمالي)(26) الصدوق: (من زارني في منامه فقد رآني) بالزاي المعجمة،
نعم في (الأمالي) بالراء غير المعجمة، وحينئذٍ يكون المعنى أن الزيارة في المنام
تعدل الزيارة في اليقظة في الثواب، ويمكن أن تقرب هذه النسخة بأن الكلام في ابتداء
الرواية كان حول ثواب زيارة الإمام الرضا عليه السلام.
ولكن نسخة الراء غير المعجمة أنسب بمجموع الرواية.
د _ أن المراد هو بيان فضيلة هذه الرؤية والتشرف بهم عليهم السلام وصدق
ما يخبرون به في المنام إذا رآهم النائم بصورهم الخاصة بهم، ويشهد ذلك مورد الرواية
التي بطرقنا والروايات التي بطرق العامة، فإن الاستشهاد بـ (من رآني في منامه فقد
رآني لأن الشيطان لا يتمثل في صورة أحد من أوصيائي) في الرواية وقع للإستدلال بصدق
ما أخبر به النائم في الرؤيا من قبلهم عليهم السلام.
ثمّ ليتنبّه إلى أن الأمر والنهي في الرؤية (تارة) يكون كتشريع حكم كلّي
وأنه لا يختص بالنائم بل لسائر المكلفين، فهذا ليس إلاّ وحي يختص به
الأنبياء.
(وتارة) يكون أمر جزئي شخصي للنائم خاصة لمرّة واحدة فقط مثل: ابن
مسجداً، أو تصدق بكذا من مالك، ونحو ذلك. فهذا الذي تقدّم أنه إن وافق الشريعة فلا
حرج في المتابعة من دون وجوب شرعي كما أفاده العلامة الحلّي قدس سره وجزم بصحة
(الرؤية) الشيخ المفيد، وإن عارض وخالف الشريعة فلا ينبغي المصير إليه، كما عبّر
بذلك العلاّمة الحلّي، وقطع ببطلانه الشيخ المفيد.
ولنختم هذا الأمر برواية عن الإمام
الصادق عليه السلام أخرجها المجلسي رحمه الله عن كتاب (مصباح
الشريعة)(27) قال:
(إن الله عز وجل مكّن أنبياءه من خزائن لطفه وكرمه ورحمته، وعلّمهم من
مخزون علمه، وأفردهم من جميع الخلائق لنفسه، فلا يشبه أخلاقهم وأحوالهم أحد من
الخلائق أجمعين، إذ جعلهم وسائل سائر الخلق إليه، وجعل حبّهم وطاعتهم سبب رضاه،
وخلافهم وإنكارهم سبب سخطه، وأمر كل قوم باتّباع ملّة رسولهم، ثمّ أبى أن يقبل طاعة
أحد إلاّ بطاعتهم ومعرفة حقّهم وحرمتهم ووقارهم وتعظيمهم وجاههم عند الله، فعظّم
جميع أنبياء الله. ولا تنزلهم بمنزلة أحد من دونهم، ولا تتصرّف بعقلك في مقاماتهم
وأحوالهم وأخلاقهم إلاّ ببيان محكم من عند الله وإجماع أهل البصائر بدلائل تتحقق
بها فضائلهم ومراتبهم، وأنى بالوصول إلى حقيقة ما لهم عند الله؟ وإن قابلت أقوالهم
وأفعالهم بمن دونهم من الناس أجمعين فقد أسأت صحبتهم وأنكرت معرفتهم وجهلت خصوصيتهم
بالله، وسقطت عن درجة حقيقة الإيمان والمعرفة، فإيّاك ثمّ إيّاك).
وليعلم أن من خواص النبي صلى الله عليه وآله والأوصياء أنهم تنام أعينهم
ولا تنام قلوبهم، ووردت بذلك الروايات المستفيضة.
كما وللسيد المرتضى _ رفع الله درجته _
تحقيقاً في المقام يكون نهاية للمطاف قال في كتاب (الغرر
والدرر)(28):
(إعلم أن النائم غير كامل العقل، لأن النوم ضرب من السهو والسهو ينفي
العلوم، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة لنقصان عقله وفقد علومه، وجميع
المنامات إنما هي اعتقادات يبتدئها النائم في نفسه، ولا يجوز أن تكون من فعل غيره
فيه، لأن من عداه من المحدّثين سواء كانوا بشراً أو ملائكة أو جناً أجسام والجسم لا
يقدر أن يفعل في غيره اعتقاداً ابتداء بل ولا شيئاً من الأجناس على هذا الوجه،
وإنما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء وإنما قلنا: إنه لا يفعل في غيره جنس
الاعتقادات متولّداً، لأن الذي يعدي الفعل من محل القدرة إلى غيرها من الأسباب إنما
هو الاعتمادات، وليس جنس الاعتمادات ما يولد الاعتقادات، ولهذا لو اعتمد أحدنا على
قلب غيره الدهر الطويل ما تولّد فيه شيء من الاعتقادات، وقد بيّن ذلك وشرح في مواضع
كثيرة، والقديم تعالى هو القادر أن يفعل في قلوبنا ابتداء من غير سبب أجناس
الاعتقادات.
ولا يجوز أن يفعل في قلب النائم اعتقاداً، لأن أكثر اعتقادات النائم
جهل، ويتأول الشيء على خلاف ما هو به، لأنه يعتقد أنه يرى ويمشي وأنه راكب وعلى
صفات كثيرة، وكل ذلك على خلاف ما هو به، وهو تعالى لا يفعل الجهل، فلم يبقَ إلاّ أن
الاعتقادات كلّها من جهة النائم، وقد ذكر في المقالات أن المعروف (بصالح قبه) كان
يذهب إلى ما يراه النائم في منامه على الحقيقة، وهذا جهل منه يضاهي جهل
السوفسطائية، لأن النائم يرى أن رأسه مقطوع وأنه قد مات وأنه قد صعد إلى السماء
ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك كلّه، وإذا جاز عند صالح هذا أن يعتقد اليقظان في السراب
أنه ماء وفي المردي (خشبة يدفع بها الملاّح السفينة) إذا كان في الماء أنه مكسور
وهو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة واللبس، فألا جاز ذلك في النائم وهو من الكمال
أبعد ومن النقص أقرب)، انتهى كلامه.
وللحكماء والفلاسفة تحقيقات حول أقسام الرؤية بلحاظ عالم الخيال والعقل
والقوة والواهمة وغير ذلك لا يسع المقام لها.
وفي الروايات المأثورة عن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ما يهتدى به إلى
كثير من أبحاث المقام.
المصدر:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق